! دخان

smoke

الرجل لوى بوزه منذ أخرجت علبة السجائر. أشعلت واحدة منها فتأفف. ثم نفخت بعض الدخان، فحركه بيده، وفي تماوج الدخان أمامي... رأيت وجهها الجميل.

* * *

اقتحمتني بسرعة. اقتحمني الجينز الضيق وكتفها العاري. لكنني بقيت وحدي خلف لوح زجاجي أقمته بيني وبينها، أراقبها من خلاله تتحدث مع الجميع، تضحك، وتثير حولها سحابات البهجة.

كنت أنا القادم من عمق البلاد، أنظر بدهشة وانبهار إلى كل ما حولي، وأستميت في الحفاظ على جدري العازلة. أقضي الوقت وحيدا على الكافيتيريا، بعيدا عن صخبهم... وبعيدا عنها.

* * *

نفخت كثيرا من الدخان على دفعات، تكونت أمامي طبقات منه، والرجل انتابته نوبة سعال، ومن وراء سعاله وضجيج الميكروباص تردد في أذني صوتها.

* * *

بدون استئذان جلست. قفزت فوق أسواري وقالت:

- ايه يا عم؟ مش معبرنا ليه؟!

ثم مالت كثيرا نحوي وهمست:

- معاك سيجارة؟

بكل دهشتي، استخرجت بصعوبة كلمة "ما بدخنش"... لتنطلق بعدها أجمل ضحكة سمعتها مصحوبة بتعليق ساخر: "لسه فيه ولد ما بيدخنش؟"

ثم أخرجت من حقيبتها علبة السجائر الأمريكية، وأشعلت سيجارة نفخت دخانها بتلذذ ومطت شفتيها وهي تقول: "يا خسارة!"، لتتركتني أغرق في دهشة لذيذة.

* * *

اضطررت لفتح النافذة، الشجار الآن لا يناسب حالتي المزاجية... تقريبا أخرجت وجهي كله من النافذة، أنفث الدخان وأنظر من خلاله إلى أضواء الطريق اللامعة.

* * *

كنت أريد أن أشاركها كل شيء... أن أشترك معها حتى في الدخان الذي نشد أنفاسه. أن يدخل رئتينا تبغ من النوع نفسه.

اكتشفت أنني – ضمن ما أدمنت - أدمنتها، كان وجودها بجانبي يعني البهجة، وبعدها عني لم يكن له سوى معنى واحد: البحث عنها.

سرعان ما جذبتني إلى علب الليل الملونة، أدمنت تلألؤ الأضواء بين خيوط دخان حلبات الرقص. كنا نسمي أيام أسابيعنا بأسماء صالات الديسكو، حتى (أفريكانو) - التي ملأها سودانيو القاهرة سوادا - كان لها عندنا نصيب.

* * *

العجوز بجانبي بدا عليه الارتياح، لسبب ما ضايقني هذا، أغلقت النافذة وأشعلت سيجارة جديدة متجاهلا نظراته، وقررت أن أبدأ الاستماع إلى سيمفونية سعال جديدة.

* * *

كان واضحا أنها تريد أن تتركني في منتصف الطريق!

اختفت أسبوعا كاملا، كانت تتهرب من مكالماتي خلاله، وكنت أنا أعاني أعراض الانسحاب وحيدا. كانت صدمة كبيرة لي عندما ظهرت أخيرا بحجاب أنيق فوق رأسها. قالت إن صديقة لها ماتت وإنها أقلعت عن التدخين، وإنها اكتشفت أنها كانت ضائعة، وإنها لن تراني بعد اليوم!

ضائعة؟!

وماذا كنت أنا معها وماذا سأكون إذن بدونها؟!

* * *

نفخت سحبا كثيفة تجمعت داخل الميكروباص، لتصنع جدارا سميكا من الدخان، وكان الرجل بجانبي يسعل بينما اختفى كل شيء وراء الدخان تماما كما يختفي الآن وجه حبيبتي خلف نقاب أسود غليظ.

6 تعليقات:

محمد عبد الغفار said...

معالجة اكثر من جيدة لفكرة قديمة

... said...

دوما يعجبني الحكي بطريقة الاستدعاء..أشعر بتناغم الزمن وتأثيراته علي الشخوص فيزداد ارتباطي بهم حتي النهاية..جميلة

حقى اهرتل said...

محاوله جيدا ولكن انت مستغرق فى الجمل الوصفيه على حساب السرد مما اضعف قليلا من وقع النص
فالجمل الوصفيه هى احدى حيل ايقاف الزمن
ومع استخدامك حيلة التذكر و هى الاخرى من حيل ايقاف الزمن السردى
ومع استخدام الاسلوب التقريرى طوال الحكايه
بعيدا عن ذلك انت لمست تساؤل غريب استوقفنىمنذ فتره
لماذا معظم فتيات الليل والمدخنات تنتقل من النقيض الى التشدد فى الدين
رغم اننا امة وسطا
وكذلك 95%من الوهابيين(اعضاء جماعة انصار السنه)كانوا مدمنى مخدرات او اصحاب علاقات مشبوهه
ملاحظه غريبه اطلقها مجموعه من الباحثين فى الازهر
وشكرا

تــسنيـم said...

تصفيق حاد وبس يا أحمد


:)

Anonymous said...

الفصة جميلة جدا يا شمسي والله فعلا تستحق المركز الاول .. الف مبروك

هدى شاهين

نسمة said...

قصة جميلة جدا
تخبئ في طياتها معاني اجمل
تستحق فعلا التصفيق الحاد