!هذا الزهايمر الذي يأكل الأسماء

63

تسألني؟! أنت طبيب مثلي وتعرف.. المستهبلين من المرضى لم يتركوا لأولاد الحلال منهم مكانا! الرجل جاءني بأعراض معروفة... أعني أن ضغطه كان سليما وحرارته طبيعية ونبضه لا غبار عليه، وكان يشير بيده كلها لأخيه ويقول: (انت اللي هتموتني يا محمود)!

هذه ليست أول مرة نرى هذا في استقبال مستشفى يا دكتور! ألم تر أنت مثلها؟ (محمود) هذا ضرب أخاه الأصغر ليؤدبه على فعلة شنعاء، فتفتق ذهن الملعون الذي نسيت اسمه عن هذه الحيلة ليقلب الطاولة على الكل ويلعب دور الضحية في استقبال المستشفى، أعني... ألم تكن ستفكر كذلك؟

لكن الأمور تطورت بشكل مفاجئ، كنت أفحص حالة ظننتها أكثر أهمية حين جاءت أخته تجذبني من طرف البالطو الأبيض بيدها القذرة، وتقول: (الحقنا يا دكتور!)... أجبني بصراحة، هل كنت ستعود للحالة سريعا لمجرد أن أحدهم يصيح: (الحقني يا دكتور)؟! كلهم يقولون هكذا حتى تأتي الجملة التالية، لتصف أعراضا تافهة.. (المغص حيموتني)، (الصداع حيفرتك دماغي)، إلى آخر هذه التفاهات.

مع ذلك رجعت لهم بسرعة معقولة...لأجد الوضع منقلبا تماما...

الولد – ماذا كان اسمه؟ - تلون بالأزرق، وجلده أصبح باردا وشفته بيضاء وكان يقاتل للحصول على الهواء. بصراحة، بدأت آخذ الأمر بجدية... صرخت:

- ولاء... استدعي طبيب الرعاية حالا!

الهاتف؟! أي هاتف يا دكتور؟ الهاتف معطل منذ مدة، ولكن ولاء موجودة وتعمل... لماذا لا تضحك؟! النكتة ليست سيئة إلى هذا الحد!

عموما أنت تعرف ولاء، ربما قابلت (رحاب) الجميلة ممرضة العمليات في الطريق وتبادلا حديثا قصيرا، وتعرف ما يحصل فوق في العناية المركزة، الأطباء يتبادلون حديثا لذيذا مع زجاجات الكوكاكولا الباردة... وبالتأكيد لم يتعاملوا بالجدية الكافية مع نداء ولاء المستعجل. حقهم بصراحة، أنت تعرف أن نصف نداءات الاستقبال هي إنذارات كاذبة ومحض إزعاج للسلطات!

المهم...

وأنا أنتظر دكتور الرعاية المركزة، جذبني (محمود) شقيق الحالة من طرف البالطو النظيف، وقال هامسا:

- هو ممكن يا دكتور يكون اللي فيه ده لأنه شرب حاجة كده ولا كده؟

اقتربت من وجهه، القرف كان باديا عليّ وأنا أقول:

- انت عارف انه شارب حاجة كده ولا كده؟

انتفض راجعا إلى الخلف وهو يشير بيديه:

- يعني هو أحيانا بيسهر في الشغل مع أصحابه!

هل عرفت ماذا فعل ابن الكلب؟ احتفظ بالمعلومة الهامة لنفسه لآخر لحظة! كان وفر على شقيقه الكثير لو قال كل شيء من البداية.

بعد دقائق نزل طبيب الرعاية، لم أنتبه إلا على صرخاته:

- كرسي بسرعة!

حمل الولد – يا ربي على الزهايمر الذي يأكل الأسماء – إلى الداخل وأوصله بالأجهزة وعيوننا تتجه إلى الشاشة التي ترسم ضربات قلبه... حسنا الولد نبضه توقف.

لا تنظر إلي هكذا، هو ولد حشاش ومدمن، وشقيقه يحتفظ بالمعلومات لنفسه وكأنه ذاهب إلى القسم وليس إلى المستشفى، وأخته لم تقل شيئا ولا تكف عن البكاء.

كان يحاول إعادة نبضه إليه بكل الطرق الممكنة، عندما خرجت لأتابع بقية الحالات في الاستقبال، (محمود) والفتاة كانا في الخارج، طبعا لم نسمح لهما بالدخول، أنت تعرف المشاكل التي يسببها وجود المرافقين في موقف كهذا.

سألني:

- ايه الأخبار يا دكتور؟

قلت بقرف:

- ادعي له!

هنا انهارت البنت، المجنونة بنت المجنون أخذت تصرخ في (محمود)... صبت كل لعناتها عليه، وقالت إنها ستقتله لو جرى لأخيها شيء... تصور؟ أعني انظر كم المعلومات التي يخبئها أولاد الأفاعي... إذن ربما (محمود) هذا ليس شقيقه أصلا! سبحان الله، والظاهر أنه هو مصدر الأشياء الخبيثة التي تناولها.

لكن صيحات فرح غامر أطلقتها ولاء جعلتنا نجري إلى الداخل... كانت الشاشة ترسم دقات منتظمة نوعا، وكان الولد يتنفس وشفتاه تتحرك.

رفع المخفي ذراعه كلها إلى الهواء وقال:

- ذنبي في رقبتك يا...

لكن ذراعه تهاوت، وأخذ الجهاز يصفر، والشاشة امتلأت بخطوط خضراء مستقيمة...

أرأيت؟ فعلها ابن اللعيبة... مات، مات وتركنا جميعا نتحسس رقابنا في رعب!

12 تعليقات:

محمد عبد الغفار said...

حكاية دكتور جديد

أسما said...

انا مش بابطل ضحك و انا باقرأ لك اسلوبك بيضحكني و دي حاجة اشكرك عليها.بس المرة دي علي اد ما ضحكت علي اد ما اتقلبت علي المواجع الظاهر ان عندك حق و ان البلد و ناسها في حالة افلاس

MZ said...

رائع يا دكتور أحمد

أضفت مدونتك للمفضلة عندي

تقبل تحياتي

دينا فهمي said...

مات، مات وتركنا جميعا نتحسس رقابنا في رعب!

بجد هايلة

أحمد الشمسي said...

أستاذ محمد:
على رأي محمود عزت: ليس هناك أسوأ من الأطباء مرهفي الحس

Isolde:
عشان تبقي تصدقيني لما اقولك على حاجة

طبيب جراح:
أشكرك

امرأة تقول الذي لا يقال:
شكرا جزيلا

أسما said...

Dwhatever modifications u like. U r a good short story writer, i'm none. Just omit the names, and write ur story, good luck

بنت مصريه said...

احييك على مدونتك يا دكتور احمد بس انا نفسى اعرف حاجه ليه الدكاتره وخصوصا الشبان منهم بيكونوا اولته شويه يعنى من طريقه كلامك واضح انك اليط حبتين يعنى الراجل بيموت وانت بتبص لقرايبه بقرف وواضح كمان انك مهتم بالبالطو اكتر من المريض انا اسفه ازا كان رأييى ضايقك بس هو ده رايى

أحمد الشمسي said...

إلى البنت المصرية:
بداية كلامك أسعدني جدا ما زعلنيش، بس صدقيني ليس للقصة علاقة بالألاطة مطلقا، الموضوع وما فيه، إن الشخصية في الحكاية، ودي طبعا مش شخصيتي أنا خالص، عندها استهانة بالبشر عموما، واستهانة بأخطاءها بوجه عام، عشان كده هتلاقيه واخد الموضوع كله بيس وكأن مافيش حاجة حصلت!
أما بالنسبة للأطباء الشبان فأحب أبشرك بالعكس، الأطباء الشبان في رأيي مشكلتهم إنهم حنينين أكتر من اللازم.
شكرا جدا على قراءتك وعلى رأيك في المدونة.

mostafa rayan said...

عفوا هل هذه قصة حقيقية ام قصة من الخيال ؟

شريف محمد said...

مش عارف أقول حلوة لو كانت حقيقية...لأنها انتهت بالوفاة

مايحدث في المستشفيات بكل أقسامها واستقبالها , كوميديا .. كوميديا سوداء لاتمر دون تعليق
وبالطبع لن يتركها قلمك تمر مرور الكرام
أسلوبك جميل وسلس كالعادة
...
أتذكر الدراما المصطنعة في مسلسل مثل (أوقات حرجة) ...
ثم أعود للحياة الحقيقية , وأنظر لعالمي الرديء المغلف بهباب الواقع
....
لو نحينا الدراما جانبا ... فان المرعب في حكايتك .. أن الجميع صاروا يتعاملون مع نداءات الاستغاثة تعاملهم مع الولد الكذاب الذي يدعي الغرق ... نحن نعيش دوما الشطر الأخير من الحكاية , دون ان نعيشها من البداية
نترك الولد يغرق عندما يستغيث حقا
تحياتي

dr4ever said...

عزيزى د. احمد لسه فى الكتير والكتير
اكتب وعبر انت طبيب روعه وكاتب اروع

Anonymous said...

أسلوبها جميل جدا
وفكرة السرد والمقاطعات المستمرة من جانب الراوي لسير الحكاية زي:
المهم
لا تنظر إلي هكذا
فكرة ثرية جدا
العنوان أبلغ مثال على ألاطة وتناكة الشخصية
الراجل بيموت وهو مشكلته انه مش فاكر اسمه
موضوع الاطالة
أنا _ شخصيا _ مش شايفها طويلة أو مترهلة