دخلت الفيلم وأنا أشك كثيرا في أن (السبكي) سيقدم شيئا مهما وخرجت منه باقتناع تام أنه قرر التكفير عن خطاياه في حق السينما في مصر!
الأكثر إثارة للدهشة بالنسبة لي هو المؤلف (أحمد عبد الله) صاحب "اللمبي" الذي طالما قدم تفاهات لا تستحق الذكر، ويفيق في هذا الفيلم ليكشف لنا عن جانب خفي من موهبته في صنع سيناريو محكم وتناول عميق لقضية مهمة.
شيء آخر نضيفه للمقدمة - التي طالت بالفعل - هو أنه لا يوجد نجم شباك بالمعنى المتعارف عليه، ومع ذلك فالفيلم يحقق إيرادات مرتفعة وهو - بلا شك - علامة نضج فني عند المنتج - صدق أو لا تصدق - وعند الجمهور على حد سواء!
من الصعب الحديث عن قصة هذا الفيلم، فالعمل يمتلئ بالأفكار بعدد شخصياته، وإن كان يلعب على وتر واحد، هو وتر ازدواجية الشخصية المصرية. الفيلم يبدأ برجل يخرج لتوه من المسجد، يبدو من مظهره أنه مواطن صالح بسيط، يفاجئك الفيلم بأنه نادل الكباريه (أحمد بدير) الذي يقدم الخمور للزبائن. وهكذا يستعرض الفيلم جانبين لكل بطل، ما قبل دخوله للكباريه وما بعده وعلى أساس هذا تتشكل المفارقات المدهشة: (علاء مرسي) يجمع النقود من تحت أرجل الراقصات والعاهرات والسكارى وابنته مهددة بالفصل لأنها لم تدفع مصاريف المدرسة.. (جمانة مراد) التي ترعى أمها في مجموعة مشاهد غاية في الحميمية والدفء ثم نراها في وجه آخر قبيح داخل الكباريه.. ثم المفارقة الكبيرة صاحب الكباريه (صلاح عبد الله) الذي لا يشرب الخمر ولا يواعد النساء ويستعد لأداء العمرة!
بجانب هذا توجد قصص على هامش الأحداث تعكس فهما عميقا لطبيعة الحياة، منها مثلا قصة (محمد شرف) الذي يستيقظ صباحا قاصدا الكباريه فيدخل في مصائب متتالية تنتهي ببتر ساقه في لحظة مأساوية، ليقف على باب الكباريه -دون أن يدخله - وينجو من لحظة الانفجار العظيم.
في الفيلم مشاهد مميزة حقا بشكل يصعب تجاهله.. مشهد (جمانة مراد) وهي تتولى نظافة أمها في مشهد يتسم بالحميمية الشديدة ويكسب تعاطف المشاهد مع البطلة، ثم نكتشف أن لهذا المشهد دلالة عميقة حين تموت الأم في النهاية ويصبح الاستحمام الصباحي على يد الابنة وكأنه الغسل الذي يسبق انتقالها إلى مثواها الأخير. وكذلك مشهد الغسل للإرهابي الذي يسعى للشهادة بتفجير نفسه، كان قويا وصادما.
اللقطات المتعددة التي تتخلل الفيلم لـ (علاء مرسي) وهو يجمع الأموال من تحت الأقدام موجعة للغاية، خاصة وأنها تتبع أو تسبق غالبا بتذكيرك بأن لهذا الرجل ابنة لا تستطيع دفع مصاريف الدراسة، وفي النهاية يأتي مشهد الختام ليتوج الفيلم بلقطات رائعة تتداخل فيها أصوات الجميع في أشد لحظات الفيلم سرعة وخطورة وقوة قبل أن نسمع صوت الإرهابي البديل لـ (فتحي عبد الوهاب) وهو يصرخ منهيا نقاشه معه ومنهيا الفيلم: "قضي الأمر!".
النهاية تبدو انحيازا من المؤلف للخيار الأيسر في الإصلاح: أن نجمع الفاسدين في سلة ونميتهم حرقا!! والحقيقة إن هذا الحل للمعضلة المصرية ليس جديدا على الأعمال الفنية المصرية... أنا شخصيا أرى أن الحل الوحيد لمصر هي "انفجار عظيم" نبدأ على إثره في بنائها من جديد "على نظافة".
عودة للفيلم، في عمل كهذا لا يضم أي نجوم شباك تقريبا كان من الطبيعي أن نرى مباراة في التمثيل، كل ممثل هنا يعرف تماما أن أمامه فرصة ليكون بطلا والحقيقة إن جميع متقمصي الشخصيات كانوا أبطالا بالفعل.
(أحمد بدير) نكتشفه هنا من جديد.. كممثل درامي دون زوائد التهريج، يقنعك بحكمته وهدوئه.. تتعاطف معه.. وتشعر أنه المقصود بالذات في جملة الإرهابي: "فيه ناس هنا ما تستحقش تموت".
(جمانة مراد) نسيت أصولها الشامية وأنا أتابع الفيلم، كانت كمصرية بنت بلد في غاية النبل والطهر مع أمها... وكانت كمصرية - أيضا - سافلة في الكباريه، وكانت ابنة ملتاعة لحظة وفاة الأم وكلماتها في مشهد النهاية: "حاجة أستر بيها نفسي"، ستظل ترن لأذنك لأيام بعد مشاهدة العمل.
(خالد الصاوي) أستاذ... هو أستاذ تمثيل حقيقي يمكن أن يقنعك بأي دور يؤديه.
(ماجد الكدواني) أيضا نكتشفه هنا تراجيديا جيدا إلى حد كبير، مشاهده في معظمها مؤثرة جدا وأداؤه يجبرك على التعاطف معه كمظلوم رغم أنه مقامر ومدمن على "صوت طرقعة القزايز وضحك النسوان" وهي قمة المفارقة أن تتعاطف معه وهذه حاله، بل وأن تتمنى أن يحقق له أخوه المستبد ما يريد!
(محمد لطفي) بطل أكتوبر الذي يعمل الآن بلطجيا أو بودي جارد، بحة صوته كانت عائقا في التواصل معه، البحة التي يفسرها الفيلم بأنها نتيجة إصابة أحباله الصوتية في المعركة، لكنه مع ذلك قدم أفضل أدواره من حيث التمثيل ومن حيث خفة الظل البادية في تعليقاته المقتضبة الساخرة.
خطايا العمل في رأيي مصدرها (السبكي) هذه المرة بتواطؤ مع المخرج دون ذنب لكاتب السيناريو... وهذه الخطايا تتمثل في نوع من التطويل يصاحب مشاهد الراقصات والغناء الهابط في الفيلم، وهو تفكير عجيب لرجال يصنعون فيلما عميقا كهذا ويظنون أن مشاهد راقصة وأجسادا عارية وغناء هابطا سوف يرفع من رصيده عند الجمهور!
5 تعليقات:
عمرى ما قيمت الفيلم وفقاً لشركة الأنتاج ، فكره جديده هتحتاج منى وقت كبير عشان اصنف الشركات بقى
ومقدرش اعلق على الفيلم عشان مشفتوش
جميل يا أحمد المقال
لكنك لم تتكلم عن النقشبندي وصلاح عبد الله أعتقد الإشارة لهما كانت واجبة
مش غريب على الإطلاق
اللي عاجبني في السبكي انه مالوش في الفن خالص لكن تاجر صايع يعرف السوق عايز اية
لما كانت الموجة كوميدي قدم كوميديا مع بنات واغاني هابطة ( البنات والأغاني)
ولما لقي الأفلام اللي فيها قصة بتنجح قدم قصة بس فين _ في كبارية عشان يحط توليفة البنات والأغاني ويعيش
وتحيا السينما النظيفة بس ابقى لم القزايز م الأرض
الحقيقه اظن ان السينما تتعافى فى حقبتنا هذه ، قبلاً كان يمر الموسم تلو الموسم ولا يلفت انتباهى فيلم واحد اما الأن فستجد اكثر من فيلم راق سينيمائياً فى الموسم الواحد فضلاً عن التنوع الذى حتماً يفيد حتى وان لم تعجبك كل الأنواع
كباريه واحد من عده افلام قررت مشاهدتهم هذا الموسم ، ولم اخطا فى اول اختيار فالفيلم رائع وبه صناع سينيما حقيقية
جماعيه ، اسماء كبيره ، قصه واخراج صوت وموسيقى ، اداء متميز جداً حتى لأدوار صغيره جداً "نهىالعمروسى على سبيل المثال لا الحصر" حتى من لا استطيع ابتلاعهم كممثلين "خالد الصاوى مثلاُ" ابدع وانتزع اعجابى رغماً عنى
فيلم فى كباريه وولا قبله ولا منظر او لفظ خادش للحياء او تعمد ابتزال
الكل ببساطه كان فى خدمه نجاح الفيلم
عاب التجربه انى كنت اجلس فى مكان قريب من الشاشه فلم احظى بمتعه متابعه التفاصيل الدقيقه فى الكادرات ، ولم يعجبنى عبارتان قالهما فتحى عبد الوهاب فى المشاهد الختاميه
الأولى . . الحوار بيجيب نتيجه يا مولانا
فلا تجربه الحوار التى خاضها فى الكباريه تكفى لأصدار حكم مطلق بجدوى الحوار ولا الحوار كمبدا عام يمكن اعتماده كحل وحيد
الثانيه . . فى ناس هنا متستحقش تموت
الحقيقه ان كل الناس هناك لا تستحق الموت فلا يوجد إطلاقاً مسوغ لأزهاق الأرواح فى الأسلام حتى ولو كانوا بكل هذه المعصية وبمكن تمريرها على انها رمز لوجوب التضحيه قليلاً فى حالة أعتبار ان انسف حمامك القديم هو الحل الوحيد لكباريه الذى نعيش فيه
فيما عدا ذلك فالفليلم اكثر من رائع ولم اندم على مشاهدته مع اختى وزوجتى واولادى
اللهم صل على النبى يا حمادة تعليق رائع رائع ربنا يزيدك من نعيمه كمان وكمان بصراحة رؤية عميقة وشفافة ودالة على فهم وتمكن من قراءة السيناريو
Post a Comment