صندوق متخم بالهدايا

writers-block

إهداء: إلى مصطفى السيد سمير

" أنا لا أميل إلى ركوب الموجات الصحفية، ولا إلى كيل المديح المبالغ فيه، لكنني أعتقد بصدق، وأقول بضمير مستريح أن معتز التوني في روايته الأخيرة وضع نفسه في مصاف كتاب الرواية العظام"

من مقال لناقد كبير في الأهرام

في البداية لم أهتم كثيرا... بصراحة تعاملت مع الأمر على أنه قفلة كاتب مؤقتة، سرعان ما ستزول ليعود إلى رأسي ذلك التزاحم الذي أعرفه.

ربما ساعد على هذا التراخي أن الأمر بدأ تدريجيا. عندما كنت بكامل لياقتي الأدبية، كان يكفي أن يجذب انتباهي حدث صغير، حدث هامشي من ذلك الذي لا يجذب انتباه أحد عادة، ليتحول في دماغي إلى ملحمة كاملة... أشخاص تروح وتجيء وصور تتكون وتتلون... كانت دماغي تزدحم وكأن صندوقا متخما بالهدايا انفجر فيها فجأة.

ثم بلا مقدمات راحت الصور تتقلص والألوان تبهت والأصوات تخفت تدريجيا... ويصبح مرور الأفكار في رأسي يسيرا متراخيا.

والآن... أصادف أحداثا عظيمة مدهشة فلا أجد في رأسي سوى الفراغ! الفراغ فقط.

- لكن سيد معتز، بم تفسر إذن غيبتك الطويلة عن الكتابة؟

- أولا أحب أن أؤكد أنه ليس توقفا... هي استراحة قصيرة تتجمع فيها الأفكار في رأسي قبل أن تنطلق في صورة روايات ومجموعات قصصية كثيرة.

- (ضاحكة) هو هدوء يسبق العاصفة إذن؟

- (ضاحكا) نعم.... هو كذلك بالتأكيد!

من لقاء صحفي في الأخبار

أنا وحدي كنت أعلم أن الأمر ليس كذلك... كان قلقي يتضاعف يوميا وأنا أرى أوراق التقويم تتساقط دون أن أكتب شيئا... ورحت أبحث عن الإلهام في كل شيء.

حضرت حفلات كثيرة لكل الفرق الغنائية التي تعزف في ساقية الصاوي. وشاهدت أفلاما سينمائية بديعة وحضرت ندوات لمناقشة كتب عبقرية... ندوات كنت أختفي فيها سريعا قبل أن يعرفني أحد ويتعمد وخزي بسؤاله الحاد: "إيه؟! مافيش جديد؟!".

لا أنكر أن حفلات (بلاك ثيما) رفعت مستويات الشجن لدي، وأذكر أن جناحين بيضاوين نبتا لي بعد أن شاهدت (قص ولزق)... وأعترف أن الدهشة أصابتني بعد قراءتي (واحة الغروب)، وربما داعبتني خيالات ما بعد سيجارتين ملفوفتين، أو بعد زجاجتي بيرة، لكن...

الفراغ الأبيض... الفراغ الذي لا يحمل أي لون... بقي كما هو!

"....وحققت رواية معتز التوني الأخيرة أعلى معدلات البيع في معرض الكتاب هذا العام."

أخبار الأدب في تغطيتها لمعرض الكتاب

- مش معقول؟! أستاذ معتز؟ معتز التوني؟

كنت أختفي في ظلام المقاعد الخلفية في حفل لـ (وجيه عزيز)... لكنها مع ذلك رأتني، واقتربت مني وهي تشير بسبابتها المشدوهة نحوي.

- روايتك الأخيرة... تحفة!

بفرح طفل عثر على كيس ضخم من الحلوى هززت رأسي. كنت أتشبث بأي فرحة تثيرها الكتابة عندي. ربما لا يمكنني تذوق فرحة كهذه لمدة طويلة قادمة.

لكن فرحتي لم تكن فرحة بأي قارئ... كانت لها فرحتها الخاصة... فرحة بشعر ذهبي حر... وعينين لهما لون غامض... وجذل غير معتاد تتحدث به.

- تمشي معايا لحد ديوان؟

على طول المسافة بين الساقية ومكتبة ديوان، لم أتكلم مطلقا... استسلمت تماما لكلماتها، وللمرة الأولى منذ شهور لم أبحث عن إلهام في حسناوات الزمالك اللاتي يقطعن الطريق جيئة وذهابا. وبدا أن بذورا ما زرعتها في تربة دماغي - التي ظننت أنها لن تصلح ثانية - تنمو ببطء.

في ديوان... اشترت كتبا كلها روايات لي، ثم سلمتني إياها جميعا:

- أكيد معاك قلم تكتب لي إهداء

- باسم مين؟

هل كان عليها أن تفكر قبل أن تجيب: "عاليا... اكتبه باسم عاليا" ؟

- لكن لماذا رواية معتز التوني تحديدا؟

- لنكن صرحاء، أنت لا تجد في العالم العربي كتابا يحظى بلقب "الأكثر مبيعا" حقيقي كل يوم، نحن في الجامعة الأمريكية إذا لم نترجم كتابا عربيا يحقق مبيعات عالية ويحظى بإعجاب القراء والنقاد، فماذا سنترجم إذا؟!

قناة النيل الثقافية في حوار مع
مدير قسم الترجمة والنشر بالجامعة الأمريكية

(عاليا) تتصرف بغرابة حقيقية، تبدو كما لو كانت تسعى لتكتسب خبرة جديدة كل يوم، تمارس معي كل محاولاتي لملأ الفراغ بعقلي، وتقترح علي أحيانا زيارة معارض فنية أو حضور مسرحيات تجريبية، رغم أنني لم أخبرها أبدا عما أحاول فعله. تتصرف بغرابة لكنها مع ذلك لذيذة، لكنتها الغريبة في نطق الكلمات كانت تعطي لكلامها لونا مختلفا جدا.

كنا نلتقي قريبا من شقة صديقتها التي تسكن معها في مدينة نصر... كنت أنتظر عند ميدان (خضر التوني) حتى تشرق هي من اتجاه الغرب. قالت اليوم إنها تحتاج للكلام.

- شو رأيك نقعد بشي كافيه؟

- لبنانية؟! أنا قلت كده برضه.

لم أتصور أن اللهجة اللبنانية جميلة وأنثوية ومغرية إلى هذا الحد من قبل! الكلمات تخرج منغمة وموزونة من فمها والهواء حولها يمتلئ بعلامات النوتة الموسيقية.

كانت قد شربت الكثير قبل أن تقول بلهجة مصرية:

- انت مش عارف تكتب حاجة، صح؟

كدت أرد لكنها واصلت:

- اوعى تفتكر اني مصدقة اللي انت بتقوله للجرايد!

فقدتُ النطق.

- تعرف؟ صديق لبناني كان دايما يقول انه لما ما بيعرفش يكتب بيدخل في علاقة حب مع أول واحدة يقابلها.

مرحبا بك أيتها الزحمة المحببة! ها هو صندوق الهدايا يمتلئ، ربما لو كان معي قلم وورقة هنا لكتبت أفضل ما كتبت في حياتي... لكن لساني عجز تماما عن التفوه برد مناسب.

- قريت روايات لكتاب لبنانيين؟

فاجأني السؤال، هززت كتفي.

- طيب شعرا؟

بدت عصبية جدا وهي تقول:

- يعني ما بدك تقل لي يا أخي لإيمتى بدكن تضلوا شوفينيين لها الدرجة؟

- انتي كبرتي الموضوع كده ليه؟ المسألة...

- المسألة انكن ما بتقروا ولا بتشوفوا ولا بتسمعوا إلا لحالكن.

كدت أتفوه بكلام سخيف عن الريادة الثقافية المصرية ثم انتبهت إلى أن كلامي سيزيد الوضع سوءا. هذا غير أن موضوع الريادة هذا أصبح محل شك في عصر السموات المفتوحة.

كنت واثقا أن هذا الحوار سيفسد الليلة التي كانت تشي بنهاية سعيدة، أقنعتها بصعوبة بأن تتوقف عن الشرب... وتحولت الليلة بدون مقدمات لنزاع سياسي ثقافي ثقيل.

قالت وهي تنصرف فجأة:

- بكره الصبح انطرني بنفس المكان.

في الصبح انتظرت كثيرا لكنها لم تظهر، لكنني فوجئت برجل يقلب عينه في المكان ويحمل كتبا من الواضح أنها لا تخصه.

اقترب مني وسأل:

- أستاذ معتز؟!

هززت رأسي.

- أستاذة عاليا سابت لك دول قبل ما تسافر.

شعرت أن دماغي أصبحت خفيفة جدا... وواصلت السير لا أدري إلى أين وأنا أتطلع إلى اسمها على أغلفة الكتب التي تركتها وراءها، وأقرأ إهداءات ليست رقيقة مطلقا بخط يدها على الكتب.

"....ونستقبل العام الجديد بخبرين ثقافيين مثيرين للجدل. حيث تعود الروائية اللبنانية (عاليا سعيد) برواية جيدة بعد توقف طويل عن الكتابة، بينما أعلن الروائي المصري الكبير (معتز التوني) اعتزاله الكتابة نهائيا لأنه فقد القدرة على الدهشة."

جريدة السفير اللبنانية في مطلع العام الجديد

18 تعليقات:

عمرو said...

أهلا أحمد
القصة فيها نوع من العقلانية والتفكير أكدته الجمل الصحفية
الحوار الصحفي جه متجانس مع القصة تماما
لقد تحولت القصة إلى نزاع ثقافي طويل يا سيد أحمد
لكن المجمل جيد

أحمد الشمسي said...

سيد عمرو السيد...
مالك انت ومال النقد والقصص
مالكش فيها

أسما said...

الله الله، مفيش فايدة يا عمرو، واضح ان مفيش علاج للقوقزة دي... المجمل جيد؟ ايه يا عم التناكة دي؟ سيبك منه يا ابو حميد، القصة عبقرية و اسلوبها جديد، انا ما اعرفش في حد كتب بالشكل ده قبل كدة ولا لأ بس شكلها جديد نوفي بالنسبة لي
علي فكرة عجبني اوي السطر اللي بتقول فيه " الكلمات تخرج منغمة وموزونة من فمها والهواء حولها يمتلئ بعلامات النوتة الموسيقية." يعني مش عارفة ليه كدة جالي احساس ان في عصافير بتزقزق جنب وداني لما قريت السطر ده
و اضح ان انت و عمرو اقلعتوا اخيرا عن الصمت الادبي اللي دام لفترة كدة، حمد الله عالسلامة
:)

أحمد الشمسي said...

الله ينور عليك يا ايزولد, اهو ده الكلام اللي يفتح النفس...

Unknown said...

واااااااااااو
منبهرة فعلا والله

Unknown said...

على فكرة انا فى العادة بقول كلام عاقل وموزون بس انا مش عارفة اعلق الصراحة

أحمد الشمسي said...

شكرا يا إنجي والله رفعت معنوياتي

M.Rabie said...

مبهر .. جداً :)

عابر سبيل (عبدالرحمن محمود) said...

جميل
الله ينور
بس خلاص مينفعش اقول اكتر من كده

عَبْدو المَاسِك said...

يا بن الإيه
نص فعلا فذ و بسيط و معبر عن حالات مفتعلة كتير و مصطلحات وهمية زى الإلهام و الناقد و البيست سيللر ..أشيد بجهدك به
و لا أتقعر تقعرا نقديا

تحية لحرفك

أحمد الشمسي said...

أنور: شكرا ..جدا
عابر سبيل: مبسوط لأننا بسطناك


عبدو الماسك:
أنا فعلا ممتن لقراءتك الواعية، الواحد بيتبسط قوي لما يحس ان فيه قارئ التقط مفاتيح مرمية على جنبات النص بتاعه... انت خليت يومي أسعد

Unknown said...

هو انت مش ممكن تيجى تشوف مدونتى؟؟ عايزاك تقول رايك فى القصة الاخيرة...حتى لو جيت ملقتش اخر بوست هو القصة ابقى انزل تحته واقراها وقولى رايك
اوك؟؟

elgharep said...

فترة طويلة مرت منذ أن قرأت عمل للصاعد احمد الشمسي
عمل هذه المرة مختلف .... صياغة غريبة متطورة .... حوار متداخل جذاب ...استخدام مرن غير مبتذل للعامية المصرية و اللبنانية التى لا أعلم كيف لمصرى ان يصل الى تلك الكلمات اللبنانية الصميمة. القصة تتحدث عن كل أديب أصابت شرايينه الفكرية الجفاف والنضوب خصوصا إذا كان الأديب ممن ينتظر منهم دائما الصعود إلى قمة الجبل بدراجة تحتاج إلى زيادة السرعة مع زيادة الارتفاع خوفا من السقوط
النضج ...هي الكلمة التي أبحث عنها مع الشمسي وذلك متوقع من تجربة ليست حديثة مع كاتب شبه مخضرم مثل الشمسي الطبيب المتمرد على أحوال مهنته.
هل ياشمسى قصدت نفسك بهذه القصة بمعنى أخر ...
هل أنت معتز التونى؟؟؟؟؟؟؟
الغريب

إبـراهيم ... said...

يعجبني أن أوثق هذه اللحظة، أمـا وقد استمعت منك إلى هذه القصة، فإني أعبَّر عن إعجابي بأدائك أصلاً مـرة ثانية، وهو أمر قلما يتوفر لدى كتَّاب القصـة المعاصرين ، وإليك الملاحظـات:
أولاً كلنا نعرف أن لهجة اللبنانيين أنثوية وجميلة بلا، بلا ، بلا ...
ثانيًا شعرت أنك لم تستغرق في نفسية بطلك ولا بطلتك بالقدر الكافية، وتذكر أنك قلت أنها طالت منك، وربما خشيت أن تطيلها أكثر، ولكنها كانت تتحمل بشدة
ثالثًا: يمكن جدًا للسفير اللبنانية أن تكتب عن عودة كاتبة لكتابة الرواية، ولكن غير المنطقي أن تردف الخبر بأمر توقف كاتبك "التوني" عن الكتابة أو اعتزاله لها
سعدت تمامًا بتماس قصتك مع قصتي، التي لا تزال تكتمل ، وفي انتظـار آرائك مفصلة عنها

تحياتي أيها الشمسي

ست الحسن said...

بصراحة
قصة مدهشة وتشدك للآخر علشان تكملها
ومبسوطة اني لقيت مدونتك بالصدفة

عجبتني أوي لقطة الكتب بتاعتها وعليها الإهداءات
نهاية غير متوقعة

زهره ربيعيه said...

حينما ياخذك لحن ما فانه يشطرك نصفين تحلق مع نغماته عاليا فى صعودها..وتسحبك مجددا فى هبوط متناغم تماما كما الحال فى قصتك..التى هى مزيج متجانس من صعود وهبوط..ونهايه غير متوقعه..
جمال كلماتك الفريد من نوعه.اضاف كثيرا للقصه..اتمنى ان يكون هناك المزيد والمزيد من روائعك التى تجذبنى قريبا وقريبا جدا باذن الله

noon kiko said...

كلما استيقظت صباحا دون وعى منى تهرب اناملى الى فيشة الكمبيوتر.,.يستعد ليحمل لى مفاجأة الصباح..كل صباح..قصتى التى استمتعن جدا بقرآتها وايضا سماعها منك شخصيا..ترى هل سأكون يوما كاتبه احمل على سطورى كل هذا الابداع؟
القصه تحمل ما اكثر من السطور وما اهو اكثر من قصه..وحاله فى بدايتها كثيرا تشبهك ..فكرت فى نسخ القصه كى يمكننى حملها معى اينما ذهبت
ابدعت ثم ابدعت ثم بحق ابدعت

أسما said...

لما قريت خبر فوزك بالمركز الاول و قريت إسم القصة افتكرت انها كانت هنا في المدونة فجوجل أفندي ساعدني الاقيها بسرعة بدل ما اقعد اقلب المدونة فوقاني تحتاني عشان الاقيها.. المهم عندي تعليقين زيادة عن تعليقي المدون أعلاه، حلوة أعلاه دي؟ بقيت فصيحة بعد السنين دي كلها.. المهم تاني.. أولا ألف مبروك على الجايزة و حبيت أهنيك هنا و حقيقي ما اعرفش ليه، غالبا عايزة افتح الشبابيك و اهوي المدونة شوية، الركنة وحشة برده.. و ثانيا، ما كانش العشم.. يعني بعد الغيبة دي كلها تقدم لمسابقة بنص قديم فات عليه كل الوقت ده؟ فرحت و افتكرت ان في نص جديد، خسارة تبطل كتابة ، أرجوك يا فندم "أدهشنا".. مستنية جديدك
:)