عن الصبي الذي أعرفه

الصورة من BBC في تغطيتها المصورة لموسم الحج هذا العام. صورة لصبي لا أعرفه، يلبس ملابس الإحرام البيضاء ويتشبث بأمه التي اختارت السواد، ويبدو عليه الضيق بحرارة الشمس، صورة لصبي لا أعرفه لكنها استدعت من الذاكرة صورا أقل وضوحا لصبي أعرفه.

الصبي الذي أعرفه كان يلبس نفس الملابس، ويتشبث بأمه، التي كانت تحمل في يدها زجاجة مياه معدنية لا لتشرب، وإنما لتحمي الصغير من ضربة شمس متوقعة؛ بأن تصب منها على رأسه كلما جف!

الصبي الذي أعرفه اندهش كثيرا لمنظر الكعبة، واكتشف أنها أكبر بكثير مما يوحي به منظرها التلفزيوني، وأصر على أن يقبل الحجر الأسود، فاخترق والده به الصفوف الكثيرة، وعندما وصل إلى الحجر وجد نفسه محمولا على أيدي الكثير من الحجاج دفعة واحدة، واكتشف أن طوله بالكاد يساوي طول ذلك الحجر الذي يبدو أصغر من بعيد، وسمع أباه يقول للناس حوله: “مصمم يبوس الحجر”، وسمع الحجيج يدعون له بالبركة، ورأى أباه مبتسما يقول: “انبسطت يا سيدي؟”.

كان – الصبي – مصابا بعقدة البحث عن الكمال! كان عمه يردد دائما بغيظ لوالديه: “أنا أول مرة أشوف ولد زي كده، عايز كل حاجة مزبوطة مية في المية”. ربما لهذا أصر على تقبيل الحجر، مع أن والده قال إنه يكفي أن نشير إليه. وربما لهذا أصر أن يحلق رأسه تماما مع أن والده قال إن التقصير يكفي خوفا من ضربة شمس. وربما لهذا أصر على أن يرتدي ملابس إحرام كالجميع. خبط الأرض بقدميه وهدد بـ “رزع” رأسه في الجدار، و “خرب الدنيا” بكاء حتى يلبس ملابس إحرام بيضاء.

وبعد الطواف والسعي والكثير من المشي والصلاة، لم يثبت الإزار إزاء حركة الصغير، فاقتربت منه حاجة مبتسمة وهمست في أذنه: “إزارك مش مربوط كويس يا بابا”. تركها تصلحه له ممتعضا، ثم عاد إلى أمه يشخط، ويقول ما يضحكه دوما حين يتذكره الآن: “وكمان مش عارفة تربطي الإزار كويس، كسفتينا مع الناس يا شيخة!”.

لا يزال الصبي مصابا بعقدة البحث عن الكمال، بعقدة رؤية النقص، لا يزال يشعر أنه لم ينجز شيئا ذا قيمة، والأسوأ أنه يشعر أن الوقت فات لصنع شيء كهذا.

9 تعليقات:

عمرو said...

شمسي
أنا حبيت التدوينة دي جدا.. مكتوبة بقلب
u made my night
:)

تــسنيـم said...

كنت لسه بسأل نفسي النهاردة..

هو أنا ليه مش زي غيري؟

ليه دايما محبكاها؟

مالها أنصاف الإنجازات و أنصاف الحلول ... مالها الأنصاف في عالم فيه القوالب نامت و الانصاص قامت

:\

زينب علي حبيب said...

الله يوفق ذاك الصبي لكل ما يحب الله عز وجل و يرضى

البحث عن الكمال شيء جميل ... و نحن نستطيع الوصول للكمال ... لكن كمال من نوع اخر ...

موفق أخي :)

الحسينى said...

:)
البحث عن الكمال صفة حميدة تحث على الجد والاجتهاد ولكن بدون أن نقسو على أنفسنا أو أن نجلد ذواتنا .
" لا يزال يشعر أنه لم ينجز شيئا ذا قيمة، والأسوأ أنه يشعر أن الوقت فات لصنع شيء كهذا."
أحياناً يكون البقاء وامتلاك القدرة على التقييم الموضوعى إنجاز بذاته أما عن ضياع الوقت فلست معك بالمرة
it's never too late
تقبل تحياتى

Rosa said...

موضوع المزبوط ميه فى الميه ده مشكله كبييييييييييره اوى
كلام جميل وذكرى اكيد حلوه اوى
ملحوظه على الهامش:يابخته الولد اللى تعرفه ده...عقبال مانروح هناك زيه

اميرة بهي الدين said...

انا حبيت التدوينه دي
وحبيت الصبي
واعرف صعوبه مايعانيه
فالكمال لله وحده
لكن البشر اعتمدوا علي تلك الحقيقه ليستهبلوا
فاصبع الصعب والنادر ان تسعي للكمال
وتبذل مجهود في كل ما تفعله لتفعله كما ينبغي !!!ا
تحياتي للصبي وذكرياته التي كانت ولم تفارقه بعدمالم يعد صبيا

أسما said...

:)
بحب تداعي الافكار جدا... موقف او كلمة او حتي صورة ممكن ترجعك لورا سنين... ذكريات حلوة يا احمد

ملحوظة علي جنب كدة... النقص في حد ذاته من موجبات كمال الاشياء و الاشخاص علي حد سواء... لان الكمال لله وحده و البحث عن الكمال ف حد ذاته هدف غير واقعي علي الاطلاق... ما تزعلش اوي لما تشوف نقص، خلي روحك رياضية و ما تبقاش حنبلي عشان انت ما تتعبش و ما تزهقش اللي حواليك اللي ممكن اصلا يشوفوا بحثك عن الكمال ف حد ذاته نقص فيك، والطبيعي انهم يحبوك و يقبلوك حتي لو هتزهقهم يعني
:D
و اخيرا يا فندم الوقت اكيد ما فاتش علي اي حاجة، اللي عايز يوصل لشئ بيوصل له و لو بعد حين

هذا و الله أعلم، علي رأي الشيخ سيد، عارفه؟
:D

nor said...

hahahahahahaha !!
مش ليك

بس فكرة نداعي الأفكار دي لذيذة بجد....

انت عارف موضوع الكمال ده مرهق بجد ومن الواضح انه ازمة جيل..!
والمشكلة اننا عندنا من الواضح على الأقل في مزج مابين "الكمال" المستحيل بطبعه "وعدم الرضا" المتوافر بطبعه... فكلاهما في تصوراتنا وبمنظورنا الضيق يخدم كلاً منه الآخر...

فمثلا " الكمال المطلق" اللي هو حكر-غصب عنك- على الله عز وجل, يحمل في طياته الكثير من عدم الرضا....

ربما يجب ان نقيم الكثير من أفعالنا لأي بند هي أقرب....

هنا يغني كل طائر على ليلاه فغرد....فقد اثرت في صوراً وذكريات زخمة!! ..دمت مبدعاً

أسما said...

افتكرتك انهاردة لما قريت دي

فـوق تحت . ورا قـدام . يمـين شـمال

فـى الجـو . تحت الميـة أو فى الرمال

طـلب الكمــال يحـرم علـى الممـكن

والممـكنات دول محـرومين م الـكمـال

و عجبي!

جاهين طبعا
:)