الشريك

1936_12_2

تبرز كلمات (تشيكوف).. تتمرد على ما حولها من كلمات في الذاكرة..

الآن تصبح كلماته أكثر وضوحا من أي وقت مضى: "أشد كلمات الخطباء تأثيرا قد تثير الدمع في عيون الغرباء، لكنها تبدو لأصحاب المصيبة باردة تافهة"..

الآن تحترق عيناي بالدمع.. وأستمع إلى خطيب لم يعرف يوما أبي.. ولا يعرف أن نصائحه بالصبر تبدو أقل كثيرا من مستوى الحدث.

بعيون مهتزة من وراء الدمع، أبصرت الجمهور عند باب المدافن. ذكرني هذا بكلام أهل البلد، قالوا إن الله يرسل لنا في هذا اليوم آية من آياته، فبينما توفي أبي الذي جاوز الخمسين بقليل، يموت في نفس هذا اليوم.. ذلك المحمول على الأكتاف والذي لم يبلغ الثلاثين بعد. أخذت أفتش وسط الجمهور عن ابن الميت، فكرت إني سأجد شريكا في الحزن، مسحت كل الوجوه بحثا عن وجه يحمل بؤسا كالذي يحمله وجهي، ودمعا حارا كدمعي، وذكريات حزينة كالتي ملأت عقلي..!

التقطت أذناي حديثا عن سوء حظ الصغير الذي تركه وراءه، وكلاما لرجل يتمنى لو كان الصغير اليتيم أكبر قليلا.. كيف لم ألحظ هذا الطفل؟ صبي لا أظنه تجاوز الأربع سنوات، تتناقله الأيدي، يتشبث بذيل جلباب أحد الرجال تارة، وبذيل جلباب رجل آخر تارة أخرى.. ونظرات عينيه تقول إنه لا يستوعب شيئا مما يجري حوله.

فرغ الخطيب أمامي من خطبته التي انتظرت نهايتها بفراغ صبر، فإذا الناس ستعود أدراجها..أهكذا ينتهي الأمر؟ إنهم حتى لن يؤنسوا وحدة أبي الذي دفنوه للتو، لم يجودوا سوى بكلمات عزاء تحمل كل برود الدنيا: "شد حيلك".."انت راجل البيت دلوقتي".."ما تبكيش قدام اخواتك"..!

قررت أن أبقى قليلا بجانب قبر والدي! عُبئت كل خلايا مخي بالذكريات: تذكرت كل قصيدة شعر قالها، كل مزحة ضحكنا لها، كل ابتسامة تأييد، وكل نظرة توبيخ وتأنيب..!

حانت مني التفاتة ناحية شريك الحزن، أدهشني أن أجد عنده من كانوا حولي منذ قليل، يحملونه، يحتضنونه، يمسحون على رأسه الصغير، بينما احتفظ هو بنظرات بلهاء، وبفم غبي مفتوح.

الآن...تتتابع ذكريات بغيضة في رأسي.. مشاهد متتالية كئيبة..غرق أبي في غيبوبته..نحمله حملا إلى المستشفى.. وتسجيل يملأ أذني لصوت سيارة الإسعاف..

أغادر المدافن مسرعا وعيناي تملؤهما صورة ثابتة..

خط مستقيم في جهاز رسم القلب..

خط مستقيم بارد يخلو من نبض الحياة...

الآن..ألقي نظرة على الشريك...فيمتلئ صدري حقدا وحسدا...

الآن فقط، أتمنى لو أن لي نظراته البلهاء، ودماغه الخالية من الذكريات!

____________________________________________________________
حظيت القصة بمناقشة جيدة في إذاعة الـ BBC البريطانية ننشرها بإذن الله البوست القادم

17 تعليقات:

أسما said...

انا جيت الاول... هع هع هع

طيب سؤال و النبي قبل ما اعلق، هي فعلا القصة ناقشوها ف ال
BBC
و لا انت بتهزر؟ و ما تقولش انه سؤال غبي عشان انا و الله صدقت، بس انت بتهزر صح؟

عموما، القصة دي انا وقفت عندها كتير ف المجموعة" و هي معايا هنا علي فكرة...مع غرناطة و حاجات تاني كدة ما كانش ينفع اخرج من بيتنا من غيرها... المهم، كنا بنقول اييييييه؟ آه، بص يا سيدي السطر بتاع تشيكوف ده ف الجون، فعلا ما حدش بيحس بالوجع غير صاحبه، و اي كلام مواساه بيبقي فارغ و مالوش طعم... و احلي سطر كتبته هو الاخير ... فعلا احسن الواحد دماغه تبقي فاضية ، ما فيهاش ذكريات
...

أحمد الشمسي said...

يا إيزولد يا بنتي واضح إنك لسه ما تعرفينيش، أنا ما بهزرش في البلوج بتاعي هع هع هع

القصة فعلا ناقشوها في الـBBC برنامج أوراق، روائية لبنانية اسمها هاديا سعيد ودكتورة في الأدب العربي من جامعة صينية نسيت اسمها دلوقت (الاتنين الجامعة والدكتورة).

عموما أنا مسجلها على شريط ويجري حاليا تحويلها إلى ديجيتال بس استني لما الاقي الكابل

Anonymous said...

أوتدري أنني كلما نعيت حظي ؛ لفراق أبي عني ؛ أعود وأشكر الله أنني أحسن حالا من غيري ؛ نعم . فلقد تركني أبي وأنا كبيرة بعد أن علمني أشياء ؛ هي كل رصيدي من المعرفة في هذه الدنيا ؛ كنت أريده أن يربي أحفاده إن رزقني الله أنا أو أخي كما رباني ولكن الحمد لله ؛ فكيف وأنا كبيرة أشكو وأطفال صغار لم يتذوقوا حلاوة كلمة "بابا "؛ فالأب سند وضهر وأمان .
تعاطفي مع كل شركاء الحزن الصغار وتحياتي لك علي هذا البوست المؤثر .
ديدي

noon kiko said...

اهلين

اولا
انا قلبى طيب فعلا
من حظك يعنى
ثانيا
بيت العيله بالفعل جاياله شوطة حسد هايله
كل بوستات سكان بيت العيله كلها قوقزه
:(

ولو انى مكتئبه من البوستات الحزاينى دى
بس هعلق

طبعا القصه دى كان ليها شعور مختلف عن كل قصصك وانا بقراها
لانها مقاربه لموقف وفاة والدى انا كمان

ملحوظه
الكتاب كانت فعلا هتبقا نهايته مش ولابد لكن طبعا مش هان علياوهو موجود ف خزنتى
القصه جميله جدا والموقف موصوف بمشاعر حقيقيه

كلمات تشيكوف رائعه
ذكرتنى بالمثل الالمانى القائل
من يتجر ف الزهور لا يشم رائحتها

اما كتاب المخزنجى فانا ماليش ذنب
حد قالك تسلفه
طاب كنت استشيرنى
كنت قلتلك اللى فيها

يالا بقا

صافى يالبن
:)
وكل سنه وانت طيب

عمرو said...

أحمد
أنت تعرف رأيي في كتاباتك.. لن أضيف لك الكثير, بانتظار تدوينة البي بي سي.. لأني بالرغم من إني سمعتها كتير الحلقة دي لكن نفسي أسمعها وأقراها ألف مرة
سلام:)

أحمد الشمسي said...

ديدي... الشكر لك أنت.
على فكرة لو عايزة المزيد من قصص الوفيات دي أنا عندي منها كتير.

القصة دي كتبتها بعد وفاة والدي تقريبا بسنة... كان لازم أطلع مشاعر الحزن دي بس بشكل قصصي. فافتكست حكاية الشراكة مع الولد الصغير.

اللي انا اكتشفته بقى ان الفراق بالموت دهبيستدعي مشاعر متشابهة عند كل البشر تقريبا... الخوف اللي بييجي بعده من موت كل القريبين مننا... التعود على طقوس الغائبين وافتقادها... الندم على كلام كان مفروض نقوله والموت ما أمهلناش واحنا اتأخرنا...

كل تفصيلة من دول انا كاتب فيها قصة.

الشكر لك والتعاطف مع شركاء الحزن والرحمة للأموات.

أحمد الشمسي said...

واحدة من الناس:

حليب يا قشطة!

أنا كنت عارف ان الكتاب مش هيهون عليكي برضه! ولو ان منظره وهو بيتحرق كان بيجيلي في كوابيس! هههههه

كل سنة وانتي بخير

أحمد الشمسي said...

عموووور... انت حبيبي من زمان! حبيبي من أيام الجيزة

أسما said...

الحمد لله انه طلع بجد... اصل تعرف، انا تقريبا باصدق اللي بيتقالي، خصوصا لو المعلومة شكلها جد فعلا مش هزار، و بعدين يطلع الموضوع حاجة من اتنين، يا اما هزار، يا اما ، بعيد عنك يا رب، يطلع كذب و ف الحالتين بحس اني عبييييييييييييط... بس انا مستنية اسمع تسجيل الحلقة
...
:)

Bahr said...

bbc يا دكتور ايه العظمه دى

انا فخور بيك والله ادى الصحاب ولا بلاش
بس حكايةالbbc دى من امتى

اتمنى من الله ان يوفقك لما يحبه ويرضاه

ونفسى أشوفك فى الكوشه قبلى ( مع ان ده شئ مستبعد ان شاء الله )
ما تحرمناش من تدويناتك
ويغفر الله لابيك ولجميع اموات المسلمين
اللهم أمين

ponpona said...

أهكذا ينتهي الأمر" كان أول شيئ خطر ببالي أيضا ، لكنني بعدها
أدركت أنه لم يكن كذلك فقد بدأت للتو أشياء جديدة ، وأشياء أكثر لم تعد كما كانت

بدأت أبحث عن ملابس سوداء ، واكتشفت أن هذا اللون كان خارج نطاق ملابسي
بدأت أعرف كيف يكون الحال وأنت من يتلقي العزاء ...
ولدهشتك لم تكن تعرف بماذا تجيب

رحل عمي وكنت أتساءل "اهكذا ينتهي الأمر؟!" أنا لازلت أعتقد وبشده
أنه فقط اذا فتحت الباب بسرعه كافيه ودون ان أفكر فحتما سأجده
جالسا كما كان ، يبتسم ، ويشير الي أن أجلس بجواره

لكن وبكل مره أكتشف أكثر أن الأشياء فعلا تغيرت
وألا شيئ يبدو حقيقة كما كان
بيت عمي لم يعد كما كان ...
زوجة عمي لم تعد كما كانت ...
تبتسم وتخبرني أنها بخير ، لكنها ليست أبدا كذللك
حتي أولاد عمي ، منهم من تزوج وأنجب ، لكن أحدا منهم لم يعد كما كان
شرخ كبير يتغاضي الجميع عنه ، ولا ينفع اصلاحه

الصغير لم يذهب بعد الي المدرسه ، لا يعرف ماذا يحدث
لكنه يعرف أن هناك أناس كثيرون وأن أباه ليس ضمنهم
يسألني .. أخبره أن أباه الان عند ربنا ، يتعامل مع الأمر
وكأني أقول " أبوك عند الجيران " ينظر الي وكأنه يخبرني "وما المشكله في ذلك"
ثم يتركني حين ينادي عليه ابن الجيران وأراهم من الشباك يلعبون
وأراه يعترض ويتهم صديقه بالغش ف اللعب

تمر الأيام .. أسافر وأعود ويفاجئني حين يراني "أنا مش هاصلي تاني"
أندهش من الجمله الغريبه والتي لا أعرف من أين جاء بها أو لماذا حتي يخبرني
لكني أخبره أنه من الضروري أن يصلي لأن الله طلب ذلك ولأننا نحب الله
فيجب أن نطيعه . "بس أنا مابحبهوش" ، أكتم مخاوفي
وأقرر الاستماع للآخر ...

"مش انتي قولتيلي ان بابا عند ربنا .. طب أهو ربنا أخد بابا
ولا رجعهوش ، يبقي أنا مابحبهوش "
جذبت الصغير من ذراعه وأجلسته في حجري ، أحاول أن افهمه أننا جميعا
جئنا من عند الله واليه نعود ، وأن أباه لابد وأنه يجلس ف الجنه ويرانا الان
أسأله هل تعرف الجنه ؟ يقول نعم ، "طب فيها ايه ؟" يفرد ذراعيه
الصغيرين علي اتساعهما ويقول "زحليقه كبيييييره" أبتسم لفكرته الطفوليه وأكمل...

أخبره أن أباه يريد منه أن يكون ولدا طائعا ، وأنه يجب أن ينفذ أوامره حتي
لا يغضب . وأخبره عن أشياء أخري تتتعلق بالحسنات التي تذهب لأبيه
في الجنه اذا ما هو صلي وأطاع أمه

كان يستمع الي ، ولم أدر هل يفهمني حقا ، وان فهمني .. هل يستوعب
لم أعرف كيف استقبل ما أقول لكنه قام وذهب الي الحمام ، شمر عن كميه
وبدا كمن يتوضئ


أحمد أنا مش عارفه فعلا أنا قولت الكلام دا كله ليه
بس انت فكرتني بحاجات كنت معتقده انه بمرور الوقت
ممكن يبقي الموضوع أهدي شويه
لكن اكتشفت ان أنا علي آخر البوست كنت ببكي

...

جمال عمارة said...

في الحقيقة، هذه يا ولدي قصة رائعة..

ووصفك فيه من الحيوية ما يحمل الإنسان على البكاء..

بس كرامةً للشهر المفترج.. مفيش عندك حاجة "فرايحي".. :)

أحمد الشمسي said...

بحر... انت واحشني جدا يا ولد.. انا مش راضي اقدم في مسابقات تاني لحد ما تيجي :)

أحمد الشمسي said...

بونبونة: مش عارف ارد قصاد كمية البوح اللي في تعليقك...
ربنا يرحم أموات المسلمين جميعا

أحمد الشمسي said...

أستاذ جمال... ندور في الخزنة على حاجة فرايحي مخصوص عشان حضرتك

Unknown said...

هى لازم تحظى بمناقشة بصراحة

حلوة اوى ومع انها واقعية جدا الا انى حسيت بالابتكارية جدا

الله ينور يا شمسى

أبنوسة said...

احمد الشمسي

صباح الخير

تقبل زيارتي

ليس ل تشيكوف علاقة .. بس بالجد يشبه نصك الادب الروسي ... المختصر المفيد جدا

سعيده بمدونتك

صافي الود